لا بد من التذكير بمواقف وأساليب عمل حزب الله وخطابه بعد حرب تموز 2006، كما صاغها أمينه العام الشهيد السيد حسن نصرالله، ومقارنتها بمواقف أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بعد حرب 2024، خصوصاً أن الكثيرين من مناوئي الحزب يحاولون الإيحاء بأن الحزب يتغير ويتخلى عن مبادئه وثوابته، ويشيرون بطريقة خبيثة إلى أن سبب ذلك هو ضعف الحزب بعد الحرب، وأن ما كان أيام السيد نصرالله لم يعد موجوداً مع الشيخ قاسم، والذين يقولون إن في كلام الشيخ قاسم مزيداً من اللبننة لا يقولون ذلك مديحاً بل تنمراً في سياق الإيحاء بالضعف، فكيف يمكن أن نقارن بين الحربين ونتائجهما وتأثيرهما على مواقف الحزب؟

بالمقارنة بين الحربين يتحدد حجم النصر بحجم الحرب، فقد كان التحدي الذي قامت به المقاومة لكيان الاحتلال عام 2006، ينحصر بعملية أسر جنديين للمقايضة على الأسير الشهيد سمير القنطار، وهي عملية لأسباب لبنانية صرفة وعلى طرف الحدود اللبنانية، والحرب التي شنّها الكيان كانت بحجم حرب سحق المقاومة ونزع سلاحها، وكان النصر استراتيجياً عندما فشل الاحتلال في تحقيق أهداف حربه، واضطراره لقبول وقف للحرب بصيغة تبقى فيها المقاومة وسلاحها، ضمن ضوابط وضعها القرار 1701، وجوهرها جعل التساكن مع قوة حزب الله وسلاحه محدود الأثر والخطر على أمن الكيان، ويستطيع الكيان أن يقول إنه ذهب الى حرب 2006 وفوجئ بقوة المقاومة وهو لم يستعدّ لحرب بهذا الحجم ومع قوة بهذه القدرة، ولذلك عقد المؤتمرات وأصدر التقارير وأجرى المناورات، واستخلص العبر والدروس وبنى المقدمات لمنازلة تحقق نتائج حاسمة.

يمكن القول إن حرب 2006 جرت على معادلات الحد الأدنى للطرفين، المقاومة والاحتلال، بينما حرب 2024 جرت على معادلات الحد الأعلى، حيث إن كلاً من الطرفين أكمل استعداداته لحرب كبرى، وحيث المقاومة بدأت بعملية لا تتصل بشأن لبناني مباشر مثل قضية الأسرى، ولم تقم بعملية ظرفية في المكان والزمان كعملية الأسر، بل ذهب لعمليات بالمئات والآلاف على مدى أحد عشر شهراً، وعلى طول الحدود وبعمق داخل فلسطين المحتلة عام 1948 المسمّاة دولياً بأرض “إسرائيل” وصل إلى 30 كلم و40 كلم. والاحتلال جاء إلى الحرب بخلفيّة أبعد بكثير من نيّة التخلص من تهديد أمني، وهو يقول ويدرك أن ما بعد طوفان الأقصى يقول بأن التساكن مع مقاومات مسلحة على الحدود يعني تهديداً وجودياً للكيان، ولم يخف كل قادة الكيان القناعة بأن الحرب على المقاومة هي حرب وجود بالنسبة للكيان وأن الفشل فيها هو تسليم بقدر التساكن مع القلق الوجودي. وهذا يفسر فعليا سبب إحجام المهجرين من مستوطنات شمال فلسطين المحتلة بالعودة، وأظهرت الحرب أن الكيان قد أعدّ لها ما يتناسب مع هذا التقدير الوجودي، وجاءت حزمة الضربات القاتلة التي وجهها للمقاومة وبنيتها وبيئتها وقادتها وصولاً الى اغتيال أمينها العام، تعبيراً عن حجم الإعداد.

بالتوازي ظهر أن الكيان فشل في أمرين على مستوى المكانة الاستراتيجية رسما نهاية الحرب، الأول الفشل في بناء شبكة دفاع جويّ قادرة على تفادي صواريخ المقاومة وطائراتها المسيرة، وقد أظهرت الحرب فاعلية هذه الأسلحة وحجم قدراتها وصولاً إلى سيادتها على أجواء فلسطين المحتلة بمثل سيطرة الاحتلال على الأجواء اللبنانية، مع تأثير أعمق لجهة شعور مستوطني الكيان للمرة الأولى بخطر الاستهداف بهذا الحجم، فعندما تكون العاصمة تحت رحمة الصواريخ ويكون منزل رئيس الحكومة هدفاً سهلاً بلا حصانة، ومقر لواء جولاني في بنيامينا عرضة للاستهداف، يصبح كل منزل في الكيان بلا حماية ولواء النخبة غير المحميّ كيف له أن يحمي. أما الأمر الثاني فهو الفشل في ترميم وضع القوات البرية بما يجعلها مهيأة لمواجهة مقاتلي المقاومة، وقد أظهرت معارك البر هذا الفشل بصورة جلية حيث عجز جيش الاحتلال بعد كل الاستعدادات والمناورات عن السيطرة الفعلية على أي منطقة في جنوب لبنان، ولكن ما كان لهذا الفشل المزدوج أن يظهر لو كانت حسابات قادة الكيان حول نتائج الضربات الأمنية القاتلة التي وجهوها للمقاومة هي حسابات صحيحة، بحيث تتكفل هذه الضربات بإسقاط المقاومة بالضربة القاضية فتنهار بنيتها وتفقد القيادة والسيطرة؟

الفشل ما فوق الاستراتيجيّ لقيادة الكيان وجيشه ومؤسسته الأمنية هو في حساب قدرة الردع لدى المقاومة، والتي نالها نصيب كبير من التندر من قبل خصوم المقاومة، لكن الوقائع قالت إن ما لدى المقاومة كان حقيقياً وصحيحاً وحجم تهديده عمق الكيان كان في محله، وقدرة المقاومة على ممارسة هذا التهديد وامتلاكها لإرادة استخدام هذه القدرة كلها كانت صحيحة، وأن الكيان أخطأ في حساباته حول الضربات القاتلة، التي فشلت في إسقاط حزب الله والمقاومة، وجاء النهوض والتماسك وصولاً لتحقيق الإنجازات وتمثيل تهديد استراتيجي للكيان، فأجبر الكيان على قبول وقف النار وفقاً لما قاله رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، لأن الجيش منهك ويعاني نقصاً في الأفراد والسلاح والذخائر، وقدرة الردع هي قوة كامنة يجري تفادي تسييلها عادة لتجنب خسارة الحرب، لكن الكيان حسب بطريقة خاطئة نتائج ضرباته حتى اضطر لمواجهة هذه القوة والوصول إلى لحظة القبول بوقف النار دون تحقيق الأهداف، والعودة الى مكان الاستحالة، وهو التساكن مع مقاومة مسلحة إلى حد التهديد الاستراتيجي، دون امتلاك تصور لخطة طريق لحرب مقبلة تكون فيها ظروف وشروط أفضل من ظروف هذه الحرب.

النصر في 2006 هو إسقاط هدف التخلص من المقاومة كمصدر لخطر أمني، والنصر في 2024 هو إسقاط لهدف الحرب بالتخلص من تهديد وجودي. والنصر في 2006 هو نصر بالحد الأدنى من التهديد والحد الأدنى من الأهداف والحد الأدنى من القدرات، لكن نصر 2024 هو انتصار بالحد الأعلى من التهديد والحد الأعلى من الأهداف والحد الأعلى من القدرات، بحيث كان في برامج الكيان بعد 2006 تصور لما يجب فعله لربح حرب مقبلة، بينما ليس لديه هذا التخيل الآن لما هو أعلى وأهم مما فعله وقد لا يستطيع فعل مثله في حرب مقبلة، والعودة إلى رهانات بنود القرار 1701 مع القوة التي خرجت معافاة من حرب 2024 بعدما فشل الرهان نفسه وفي ظروف أفضل في تحقيق أهداف أقل مع طرف كان أضعف، هو نوع من تعزية الذات لا أكثر ولا أقل.

ما يردده بعض اللبنانيين بتجاهل ذاكرة حرب 2006 عن لبننة الحزب، كعلامة على ضعفه، مقارنة بما بعد 2006، يجد جوابه فيما يتجاهلونه من نص خطاب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن التمسك بمعادلة الشعب والجيش والمقاومة، وتأكيده على أن المقاومة مستمرة وأنها مستعدة لكل حوار وتعاون للدفاع عن لبنان، لكن الجواب الأهم هو في خطاب الأمين العام الشهيد السيد حسن نصرالله في 22 أيلول 2006 الذي عرف بخطاب النصر، والذي سوف يكتشف من يقرأه أن أكثر من نصفه مخصص للشأن اللبناني عن قانون الانتخابات وعن حكومة الوحدة الوطنية وعن بناء الدولة العادلة القوية القادرة، ولعل الشيخ نعيم قاسم وضع أمامه خطاب السيد نصرالله وقام بتيويم الملفات، وفقاً للمتغيرات.

ما يردده لبنانيون وغير لبنانيين عن الخروق الإسرائيلية، كعلامة على تراجع المقاومة يتجاهل تماما ما قاله السيد نصرالله بعد 40 يوماً على وقف إطلاق النار خلال احتفال النصر في 22 أيلول، واصفا المزيد من الخروقات المشابهة لتلك التي تجري اليوم، وقوله إن المقاومة لم ترد كي لا يُسجل عليها خرق اتفاق وقف النار، ومطالبته للحكومة بموقف واضح وإعطاء الأوامر للجيش اللبناني بالتصدي للخروق، خاتماً ان المقاومة لا زالت تصبر ولكنها لن تصبر الى ما لا نهاية، وبالتأكيد لن تنظر المقاومة هذه المرة اربعين يوماً لتوجه هذا النداء.

في الحربين نصران، لكن حرب 2006 هي تمرين أول للحرب الكبرى في 2024، ونصر تموز 2006 هو نموذج مصغر عن نصر 2024.

قد يعجبك أيضًا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *